اقتصاد في الظل... ينبض بالحياة
في قلب الأحياء الشعبية وعلى أطراف المصبات، ينبض اقتصاد غير مرئي رسميًا، لكنه حاضر بقوة في تفاصيل الحياة اليومية للآلاف من التونسيين. إنه "الاقتصاد غير النظامي" .
الباحث في علم الاجتماع سفيان جابالله، في دراسة أشرف عليها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يكشف على موجات إذاعة Son FM عن ملامح هذا الاقتصاد المنسي، ويغوص في تفاصيل حياة فاعليه، مبيّنًا كيف يشتغل مجتمع بكامله خارج إطار القانون، لكنه لا يقل تنظيمًا وفعالية عن الاقتصاد الرسمي.
خلفية البحث: من "نهج إسبانيا" إلى المصبات
ينطلق سفيان جابالله من دراسة سابقة أنجزها قبل عامين حول "نهج إسبانيا"، والتي حققت، كما يقول، نجاحًا أكاديميًا وإعلاميًا، ما حفّزه على مواصلة البحث في نفس السياق. المشروع الجديد جاء في إطار متابعة الاقتصاد غير النظامي والفئات الاجتماعية التي تتحرك داخله. السؤال المركزي كان: "كيف ولماذا يوجد اقتصاد موازٍ؟".
يقول جابالله:
"البحث الذي أشرف عليه المنتدى أنجزته في تواصل مع دراسة سابقة حول نهج إسبانيا، وتوصلنا إلى نتائج مهمة... ما شجعنا على مواصلة العمل في موضوع الاقتصاد الموازي والفئات المستهدفة داخله."
صعوبة الوصول...
تطرق جابالله إلى التحديات التي واجهها فريق البحث، خاصة عند محاولة التواصل مع البرباشة داخل المصبات، حيث يمنع القانون دخول المواطنين إليها، حتى لأغراض البحث العلمي.
يقول:
"استحال التحصل على ترخيص قانوني كباحثين، فطلبنا الدخول إلى المصبات بصفة برباشة ."
هذا الوضع يكشف التناقض الصارخ بين وجود منظومة اقتصادية فاعلة من جهة، والإقصاء القانوني والاجتماعي لها من جهة أخرى.
برباشة الاقتصاد: عرض وطلب خارج الاعتراف الرسمي
يكشف الباحث أن البرباشة يمثلون عنصرًا جوهريًا داخل هذا الاقتصاد الذي لا يعترف به القانون، لكنه يمتلك كل خصائص النظام الاقتصادي الكامل:
"البرباشة مكون أساسي من الاقتصاد غير النظامي... هو اقتصاد فيه عرض وطلب ومستهلك وقوة إنتاج واحتكار وقيمة مضافة وفاعلين، وتنطبق عليه كل مواصفات الاقتصاد، رغم ذلك ليس هناك أي إطار قانوني ينظمه."*
وفي حين أن الدولة لا تعترف به قانونيًا، إلا أنها، بحسب جابالله، تتعامل معه وتترك للمناطق المهمشة حرية إنتاج حلولها الاقتصادية.
مفاتيح الفهم: ما وراء الاقتصاد غير النظامي
يحدد جابالله خمس مفاتيح لفهم هذا الاقتصاد الموازي:
1. ظهور طبقة "البريكاريا"، وهي أكثر هشاشة من الطبقة العاملة (البروليتاريا).
2. العلاقات القبلية، ودورها في التنظيم والسيطرة.
3. علاقات القرب الجغرافي، خاصة في المناطق الحدودية.
4. الحوز، أي السيطرة على مجالات النشاط دون اعتراف قانوني.
5. الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، كدافع أساسي لانخراط الأفراد في هذا النظام.
من الاحصائيات إلى النظرة المجتمعية
تمكن الفريق من إحصاء حوالي 157 برباشًا داخل أحد المصبات على مدار شهر، أما خارج المصبات، فعددهم يتراوح بين 1000 و2000 في جهة تونس 1 فقط.
أما على مستوى المجتمع، فالوضع أكثر تعقيدًا. لا يواجه البرباشة احتقارًا مباشرًا، بل نوعًا من الاحترام الصامت، لكنهم في المقابل يعانون من نظرة نمطية تجعلهم أقرب للمتسولين في أذهان البعض.
"البرباشة متضررون نفسيًا من الموقف المتوقع والمستبطن لدى الناس عنهم... ويخشى البعض منهم التصريح بممارستهم لهذه المهنة خوفًا من الوصم."
أفق البحث: من النفايات إلى الأرصفة
لا يتوقف بحث جابالله عند البرباشة فقط، بل يستعد الآن لتوسيع الدراسة لتشمل حراس مواقف السيارات غير النظامية، وهي مهنة أخرى تنتمي لنفس النسيج الاقتصادي والاجتماعي، وتطرح بدورها إشكالات تتعلق بالتنظيم، الشرعية، والمكانة الاجتماعية.
ضرورة الاعتراف بدل الإقصاء
تؤكد نتائج هذا البحث أن الاقتصاد غير النظامي في تونس لم يعد هامشيًا، بل صار بنية موازية تضمن العيش للكثير من الناس، خاصة في المناطق التي غابت عنها الدولة. ويصبح من الضروري، ليس فقط الاعتراف به قانونيًا، بل أيضًا فهم أبعاده الاجتماعية والنفسية من أجل إدماجه بطريقة عادلة تحفظ كرامة فاعليه.
"الاقتصاد الغير نضامي، اقتصاد لا تعترف به الدولة لكن تتعامل معه، لا تقننه لكن له قوانينه الخاصة." – سفيان جابالله